فهم اللغة العربية والوعي المعرفي

     كثيرٌ ممن لا ينشغلون باللغة العربية يعتقدون أنها لا تمثل إلا الإعراب في إجابات الثانوية العامة أو كليات الآداب والعلوم الإسلامية والشرعية, وكثيرٌ وهذا حق يعتقدون أنها مفتاح العلوم التراثية, ولكنَّ الحقَ أنَّ اللغة العربية هي ميراث الأمة الإسلامية والتي تفتح لها المجالات الثلاثة: الوعي الديني – والثقافي – والحضاري .

فهناك انحرافات فكرية ظهرت في التكفير والتأويل وغيرها وكلها ينشأ من جهل اللغة العربية, وجهل تراكيب هذه النصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة.

والعديد من الملاحدة والمشككين في الإسلام يدخلون بزيعهم على العالم العربي والإسلامي من باب الجهل باللغة العربية.

ومعنى هذا أنَّ فهم الدين قاصرٌ على معرفة اللغة العربية وأنَّ مَن حظه المعرفة من اللغة ففهمه دقيق ثاقب ليس كمثله ناقد بصير ولا أديب خبير.

هذا الوعى الديني قاصر وواقف على معرفة اللغة العربية لأنَّ العرب فهمت قضية الإسلام العظمى وكانت قبائل مشركة, والمسلمون المعاصرون ربما لم يفهموا قضية العبودية التي دعى لها الرسول الكريم أول مرة.

فبغير معرفة الله لن يدرك الإنسان تمام العقيدة والتوحيد ولن يعرف أكثر مما يعرف بالوراثة أو بالتخييلات الباطلة والتكهنات الزائفة.

ولما كانت الثقافة عربية فلن يدرك المثقف العربي سر الإبداع ولا يذوق طعمه بغير هذا الحس الذي يكسبه الطابع العربي الرصين الواقف على أسرار العربية ومبانيها وإعرابها لمعانيها.

والثقافة الشئ الواسع من المعرفة في غالب كل شئ حتى يدرك الكثير من الأمور الحياتية والممارسات اليومية والماضي والحاضر ويستشرف بها المستقبل, ولن يدرك هذا أيضًا إلا بالعربية, ولقد نقلت العربية الثقافات المختلفة المتباينة بكل طقوسها وطبائعها حتى يستطيع المتثقف أن يدرك من أسرار تلك الثقافات ما لم يحط بها أهلها, وكل ذلك من عبقرية النقل في إطارها العربي المعبر والمبين.

فالثقافة الأندلسية ليست كالشرقية ولم تكن كالمغربية البربرية ولن تكون كالإفريقية ولا تتماشي مع الأوربية, كل هذه الثقافات وتراكمها المعرفي والموسوعي سجل باللغة العربية حتى نعرف الآن هذا الفارسي الذي سجل أعظم كتاب في النحو وهو العربي البيان سيبويه.

كما أنها امتدت واستلمت على استيعاب تام من تلك الثقافات ورسمت أشكالها الجديدة والذي يبرهن على قدرة العربي على استيعاب تلك الثقافات بلغته العربية.

وعلى الجانب الأوسع فهم الحضارات الإسلامية وتطوراتها وسطوع نجمها ما دامت السموات والأرض, وكل حضارة مرت بها التواريخ الإسلامية لتبني الحضارة الكلية الإسلامية المترابطة والمشيدة على بناء رصين بغير تشويها السياسة ولا هجمات المعارضين.

وعلى هذا من لم تمتلك الشعوب المعاصرة لغة عربية فلن تكون قادرة على الفهم الديني الصحيح ولا استيعاب الثقافات القديمة والمتجددة ولا تخيل دولة وقوة وعظمة في المستقبل لإنها لم تدرك هامتها في الماضي .

وليست المشكلة دائمًا في الحديث عن التَّجديد ولكن دائمًا تكمن المشكلة في تحديد قضايا التَّجديد والاقتناع بحتميته لرغبة صادقة في النهوض بالموضوع المشار إليه في بحوث التَّجديد.

وكم أسمع الكلام الكثير عن تجديد اللغة العربية في مجالاتها المتنوعة, فإذا بحثت عن مدلول الكلام وما يشير إليه تكتشف أنَّ المتكلمين لديهم من سطحية المعاني ما يكشف لك حقيقة التَّجديد.

 ولا أنكر أنَّ التَّجديد سنة الله في أرضه في كل سبيل ولكن أن تكون المسايرة لهذا التَّجديد من أجل غاية يمكن أن تسهل لا أن تهدم أصولا انبنت على عاتقها أصولا وخرجت من عباءتها منهجية يتحدث عن جمال إبداعها المخالفون قبل المنهجيين.

وفي حديث لا ذي شجون أثار النَّاقد للغة العربية أمورًا تعرف بها سطحيته أو داءه الكامن في برديه, وهو إلغاء المثنى من الكلام العربي وتوحيد الإعراب في جمع المذكر السالم وغيره مما سيجعل المستمع يقول بعد هذا التَّجديد كيف نفهم قوله تعال : ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ المائدة 23 , بهذا لن نفهم بعد التَّطوير والتَّجديد ماذا يريد الله منَّا بعد هذا الإخبار.

والحقيقة أنني أعتقد لو كشف جمال القديم لما سمعنا كلامًا عن التَّجديد, المشكلة ليست في القديم وإنما في عدم إدراكه وفهمه واستيعابه.

وما كان منه معقدًا صعبًا فليس للدارسين وإنما لأصحاب العقول المتقدمة النابهة, الكلام دائمًا عن اللغة وصعوبتها بالنظرة إلى علو المراتب في التَّصنيف, وكل العلوم فيها السهل والمتوسط والصعب والأصعب.

 وقضية التَّجديد في اللغة تحتاج إلى نية صادقة في معرفة مفردات التَّجديد وما يترتب عليه وقياس نتائجه على فرض تطبيق هذا التَّجديد.

وتقرأ لمن يتجددون تجد سخف القول وضعفه وركاكته, وتقرأ القديم تعرف قيمة العرب في الجاهلية والإسلام, وتعرف كيف أسلموا لله تعالى بعد سماع كتاب الله, لأنهم أمةٌ عربية فهمت ماذا يريد الإسلام منذ الإعلان الأول.

ولا شك أن هناك صعوبة في بعض الكتابات العربية ولها أهلها كما سبق الذكر, ولنا شرحها كما فعل العلماء الأوائل, وإشكالية الجيل أن أبناء اللغة العربية لديهم قوة في الفكر وضعف شديد في العرض بحيث لا يفكرون كيف يسهلون العربية للدارسين .

وكم ترى من يعقد المعقد حتى يُرِي الناظرين فهمه وعمق علمه باللغة والأمر سهل لا يحتاج إلى كل هذا العناء.

والمهتمون باللغة لا يهتمون بنشر ثقافة اللغة ولا فلسفتها ولا سر قوتها وجمالها إلا القصص والروايات والخيالات, واللغة العربية هي وعاء العلم في الحضارة العربية, وإذا لم يفهم العربي العلم بعربيته فسوف  يفهم المدلولات والإشارات بغير إحساس ولا شعور, فإذا تعلم الإنسان بغير شعور فعلمه محبوس داخل صدره لا يستطيع أن ينفث عنه أو يمجد فيه ويعظم مفرداته.

فعلى القائلين بالتَّجديد أن يظهروا جمال القديم ويعلموه للناس, وأما استيعاب العربية للمتغيرات واللغات الأخري وتطورات الزَّمان فسل عنه المعاجم المعاصرة تجيبك عن كل كلمة حادثة.

الكاتب : ايهاب صلاح كاتب
اخبرنا شيئا عن نفسك.

إنضم إلينا وشارك!

إنضم إلينا الان
انضم إلى مجتمعنا. قم بتوسيع معرفتك وشارك أفكارك ومقالاتك!

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن