كيف كان الخلود في التراث الثقافي

الخلود في التراث الثقافي

مصطلح الخلود بوجه عام ، يعني الدوام والاستمرار، ويستخدم بمعنى استمرار الوجود الروحي للشخص بعد موت بدنه ، فمثلا قولنا “أعمال خالدة” عند وصفنا لأعمال كبار الكتاب مثل كتابات “أفلاطون” أو مسرحيات شكسبير .

ومصطلح الخلود الثقافي يختلف عن الخلد ، فالخلد عكس الموت، أما الخلود الثقافي فهو لا يعنى إثبات أو عدم إثبات وجود حياة بعد الموت ،وفكرة والخلود والخلد والحياة بعد الموت، وغيرها من الأفكار ، قد شغلت عقول الناس جميعا ، على اختلاف ثقافتهم ومدى تعلمهم ،فمنذ الإنسان الأول “آدم ” عليه السلام، وفكرة الخلود تملك عليه كل تفكيره، فهي تلك الفكرة التي استخدمها إبليس في إغواء أبونا آدم وأمنا حواء، فوضع خطته الشيطانية ، وذهب إليهما قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد ،وقد سجل القرآن هذا الموقف ،فقال تعالى في “يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى”(سورة طه)، فصدق آدم وحواء كلامه بعد أن أقسم لهما ،ظنا منهما أنه لا يمكن لأحد أن يقسم بالله كذبا ، فقد روى في الأثر أن الله سبحانه عندما سأل آدم (وهو عليك) ، لماذا صدقت كلام إبليس يا آدم ؟ رد في ندم لأنه أقسم بك يا ربي ، فهو لم يتخيل أن أحد يقسم كذبا ، وذهبا إلى الشجرة فآكلا منها، بحثا عن الخلد والبقاء… وعندها حدثت المفاجأة وكان ما كان.

ففكرة الخلود وغيرها من الأفكار المتعلقة بها، قد شغلت عقول الناس على مر العصور، فمنذ أن مات أول إنسان… والناس على اختلاف ثقافتهم ينشغلون بالخلود، ولا فرق في ذلك بين الذين يوصفون أنفسهم بالمتحضرين أو الذين يعيشون حياة بدائية أو العلماء أو الفلاسفة والكل يبحث لنفسه أو لأعماله عن الخلود، والكل في ذلك سواء.

والمجتمع المصري مجتمع قديم ومستمر، وهو كما وصفه المؤرخ “ماسبيرو” مجتمع يتميز بالبقاء والخلود ، ودلل على ذلك بخلود أثاره وثقافته.

وهو مجتمع ذو تراث ثقافي ثري وخصيب، فمصر أو إقليم مصر (كما كان يطلق عليه العرب القدامى) تنسب إلى” مصر بن حام” النازل من الطوفان ، وهى كما قال عنها الدكتور” سيد عويس “،لم يكن لها نيل واحد ، يفيض بماء الحياة على أرضها الخصبة، فما النيل إلا نهر من عدة أنهار امتازت بها مصر ، فهناك نهر الديانات وهو أطول أنهارها وظهر منذ أن سكنها نبي الله إدريس ،وأقام بها ليدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وتكلم الناس أيامه باثنين وسبعين لسانا ، وعلمه الله عز وجل منطقهم جميعا ، ليعلم كل فرقة منهم بلسانهم ،وافهمه الله عز وجل أسرار الفلك وعدد السنين والحساب وغيرها من العلوم ، ثم انحرف هذا النهر قليلا ،بسبب الخوف من المجهول والاستسلام لفكرة تعدد الآلهة والاحتماء بها من ذلك المجهول ، وتحنيط الموتى الذي يعتبر محاولة للتأكيد على فكرة الخلود ،ثم جاء اخناتون ليدعو للثورة الدينية على فكرة تعدد الآلهة ، فدعا إلى فكرة التوحيد …ثم جاءت المسيحية …ثم جاء الإسلام.

وهناك نهر ثالث ،نهر الثقافات المختلفة والعلوم والمدنيات والأساطير وما عرف بالجالميثوليات وهى الدراسة العلمية للأساطير، وهى إشعاعات إنسانية قد اندمجت مع بعضها في وحدة ساهمت في تطور الإنسان واستمرار نمائه

وهناك نهر آخر قد ساير كل تلك الأنهار ، وهو بمثابة اللباس الثقافي المتغير الذي تظهر فيه كل من الديانات والثقافات ،وذلك عندما تنتقل من صورة إلى غيرها ،ومن أمه إلى غيرها ،أو من حقبة زمنية إلى غيرها ،وهو مجرى الفنون من تصوير وأدب ونحت وعمارة…وغير ذلك من نواتج الثقافات .

ولا يمكننا أن ننسى ،إن مصر كانت ولا زالت ملتقى الطرق والبحار، وبخاصة البحر المتوسط ،الذي عليه المصريون اسم “العاطر” هذا البحر الذي حمل إلى مصر المدنية اليونانية ،والرومانية التي عاشت في مصر ما يقرب من ألف سنة ،فاندمج كل ذلك وظهرت أثار هذا الاندماج واضحة في أماكن مختلفة، وبخاصة مدينة الإسكندرية ،عروس هذا البحر، فلما دخلت المسيحية ثم الإسلام مصر لم يجداها أرضا بكرا أو صحراء جرداء من الناحية الدينية،بل كانت مصر تعرف الوحدانية من قبل ذلك بكثير، كانت تعرف اوزيريس واستشهاده ثم بعثه,كما عرفت شقيقته ايزيس،وغيره من النماذج الدينية ،وذلك كله قبل يطرق سمعها القديس”مرقص “بتبشيراته،وقبل أن يفتح أرضها “عمرو بن العاص” بجيش من خيرة الصحابة ،لهذا فقد احتضنت مصر تعاليم هذين الدينين،كما فعلت من قبل مع موسى ويوسف عليهم جميعا منا السلام وعلى نبينا وحبيبنا محمد الصلاة والسلام،وأصبحت رموزهما ،وأسرارهما ،وشرائعهما مشابهة أشد الشبه بما كانت تعي الحضارة المصرية القديمة من رموز وأسرار.

وتاريخ مصر هو تاريخ الدنيا ،أو بمعنى أدق ملخص تاريخ الحضارة ثقافة وعلما وأدب ودينا وغيره،فالحضارة القديمة هي التي أخرجت الإنسان من العصر الحجري وجمع الطعام والتنقل في الغابات والبراري، إلى عصر الزراعة وإقامة المنازل ،واكتشاف النار ،وتكوين الأسرة وإنشاء القرية ثم المدينة والإقليم والحكومة والدولة الموحدة .

لذلك فنحن عندما نقرأ تاريخ مصر القديم،نعرف منه كيف نشا الطب فى الدنيا ؟وما علاقة التحنيط وتوبلة الطعام ؟ولماذا اهتم العالم بالذهب وأعلوا من شأنه؟ وكيف ظهرت التجارة بين الأمم ؟ ولماذا اتخذت أوربا التقويم المصري؟ولماذا تسمى الكيميا الآن باسم مصر القديمة ؟ وغير ذلك من الأسئلة التي حيرت العالم ولا تزال تحيره .

وهناك من الأمثلة العديد على ما سبق منها على سبيل المثال لا الحصر ، ومنها مثلا البقرة التي يقدسها جماعات عديدة من الهنود،وهذه البقرة هي معبودة المصريين القدماء”هاتور”التي يعرفها ويعرف اسمها كل فلاح مصري،والعالم معظمه يقوم بعملية دفن موتاه وتكفينهم، ويبنى لهم القبور ،وكذلك عملية توديع الروح عقب الموت،فالروح يجب أن تودع بطريقة معينة عقب الموت من البيت وذلك على الطريقة المصرية القديمة.

ويلاحظ أن فكرة الخلود ،من الموضوعات الرئيسية التي تأثرت بثقافة كل شعب من الشعوب، وأثرت فيها أيضا،ولقد حشد العلماء والفلاسفة الأوائل جهودهم، للبحث عن الأدلة المقنعة على أن عقيدة وجود حياة بعد الموت،كانت منتشرة في كثير من الأقاليم التي تسودها الثقافة البدائية ،وقد سادت أيضا بين شعوب كثيرة عبر العصور والقرون ، مع ملاحظة تباينها بينهم على حسب مقدار ثقافة وطبيعة كل شعب وتاريخه، ففي العصور الأولى المعروفة بالعصور البدائية ،لم توجد أية علاقة بين سلوك الإنسان على وجه الأرض وبين الحياة الآخرة ،وعدم وجود أية اعتبارات أخلاقية بشان الموتى عند البابليين والأشوريين القدماء ، ثم جاء مفكري اليابان في القرن الثامن عشر ليؤكدون على أن الهاوية مكان تحت الأرض ،وعندما يموت الناس وحيثما يموتون ,فان سوف يذهبون إليها ،النبلاء منهم والسفلة والفضلاء منهم والأشرار،دون أي تمييز، ثم أعلن في معظم الأقاليم القديمة ، إن المحاربين الذين يستشهدون في المعارك ، يذهبون إلى مكان أفضل حيث يوجد فيه النعيم والسعادة، وظهر في مرحلة تالية ،تطور عام للفكرة الأخلاقية ،إلا وهى ، إن الحياة بعد الموت ستكون حياة الثواب أو العقاب ،وذلك وفقا لسلوك الإنسان على الأرض قبل موته ،وهذا ما جعل المصري القديم يعتقد إن الإنسان بعد موته سيمثل أمام محكمة الموتى لتسأله عما قام به في حياته، ومن خلال إجابته ستحدد مكانه بعد موته ،كذلك نجد الفارسيين قد قبلوا فكرة الصراط ، الذي كان عندهم عبارة عن قنطرة ،يعبر عليها الناس بعد موتهم،وتكون على حسب عمله ،ويلاحظ أن فكرة الثواب والعقاب ،قد سادت بين المسيحيين في العصور الوسطى، وما زالت هي الفكرة السائدة بين الكثير منهم على اختلاف طوائفهم.

ولقد كانت فكرة الخلود من الأفكار الرئيسية التي عالجها “أفلاطون” في ضوء جدله حول الحقيقة، وإنها من الناحية الجوهرية روحية, وحاول

 أن يثبت أن الروح لا يمكن إبادتها، وان يدلل على فكرة الخلود في محاوراته المعروفة باسم “محاورات أفلاطون”.

ويمكننا القول ،أيضا ،أن “سقراط” كان من أوائل من تقدموا بفرض نظرية “خلود الروح” ، ونجده يطلق على الفلسفة عبارة”تأمل شئون الموت” ،أو بمعنى أوضح “تأمل خلود روح الإنسان من عدمه”.

أما بالنسبة لأرسطو، فقد تصور أن العقل أبدى، ولكنه لم يدافع عن الخلود الشخصي،لأنه ظن أن الروح لا يمكن أن تبقى مجردة من الجسد، وقد قبل بعض الفلاسفة فكرة الخلود الشخصي، واعتبروا أن ماهية أرواح الناس أبدية.

ولا يمكننا في هذا الصدد ،أن نغفل دور الفلاسفة المسلمين ،فهذا الفيلسوف والطبيب المسلم “ابن سينا “الذي أعلن وأكد على أن الروح خالدة ،ولكن “ابن رشد”قد قبل متفقا مع “أرسطو” أبدية العقل الجمعي فقط.

ومن خلال دراسة تاريخ الثقافات الغربية ،نجد أن فكرة خلود الروح ،قد لعبت دورا اكبر من فكرة وجود الله ،وفي هذا الصدد يرى البعض منهم ،أن الدين في واقعه -عند الأغلبية من الناس- يعنى خلود الروح ليس إلا ،وأن الله هو موجد هذا الخلود ، ويقول الكاتب الاسباني “ميجبيل دى مانو”كنت أتحدث إلى فلاح بسيط ،ذات يوم،واقترحت عليه فرض وجود اله يحكم في الأرض والسماء ،كما اقترحت عليه ،أيضا، فرض عدم وجود خلود للأرواح وانه لن يكون بعث، ولا نشور بالمعنى المعروف لدى عامة الناس ،والبسطاء منهم خاصة ، فأجابني الفلاح قائلا وبدون تردد، وما فائدة وجود الإله،إذن؟

ولا عجب ،من أن يكون هذا هو أسلوب هؤلاء السادة في التفكير،فقد كتبوا أفكارهم في ضوء تعاليم الديانة المسيحية ،وتكونت ثقافتهم على تأكيد فكرة الخلود وتأيدها تأيدا كبيرا،ونجد هذا منذ فجر المسيحية ،فهذا القديس “بولس” نجده قد أعلن من دون لبس ،أصل هذا المذهب ،فهو يقول”وان لم يكن المسيح قد قام ،فباطلة كرازتنا، وباطل أيضا إيمانكم”.

وبقراءة الثقافة الغربية ،نجد أن فكرة خلود الروح قد تضمنت فكرة أخرى ،وهى أن الخيرين و أصحاب الأخلاق الفاضلة من الناس ،سوف ينعمون ويجازون الجزاء الأوفى على كل ما قدمت أيديهم ،وعلى ما صبروا وقاسوا من متاعب الحياة الأولى،وان أعلى مراتب النعيم، هي حيث ينعم هؤلاء في الجنة ،وينعمون أيضا برؤية وجه الله ذي الجلال والإكرام،وهذا ما قد صوره “دانيتي” في الكوميديا الإلهية، وهذا ما نجده في الثقافة العربية الإسلامية أيضا ،فالمؤمنون في حديثهم وهم في نشوة روحية ،ليس لهم حديث إلا عن التمتع بالنعيم المقيم في الجنة ،وعن التمتع برؤية وجه الله يوم القيامة،فنجد أن المؤمنين يرون من غير شك ،أن النعيم المقيم والخلود في الجنة هما الهدف الأول والأساسي، وأن الله سبحانه وتعالى ،هو المنعم على عباده يوم القيامة بالرحمة والمغفرة ،ونجد أنهم على أتم الاستعداد للتضحية في سبيل الله وعظمته،وملاقاة العنت في سبيل تحقيق رضا الله عز وجل عنهم، ونجدهم يدعون الله بذلك؛ ويتحدثون به؛ويتمنون في قرارة أنفسهم هذا الجزاء ، أو هذا النعيم المقيم والخلود في الجنة ، وهناك فكرة يتميز بها المؤمنون عن غيرهم ،ولها دور كبيرا في تشكيل مفهومهم الثقافي عن الخلود،هي انه لن يدخل احد منهم الجنة بعمله فقط ، وذلك إلا بعد أن يتغمده الله برحمة من عنده، وهذا ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لابنته السيدة فاطمة “لن يدخل أحدكم الجنة بعمله” ؛فردت عليه فاطمة حتى أنت يا رسول الله؟! ؛فقال :”لها حتى أنا ، حتى يتغمدني الله برحمته”

والمواقف عديدة في السيرة النبوية الشريفة، التي تؤكد على تلك الفكرة .

وفى الواقع ،إننا نجد بوضوح ،أن فكرة الخلود ،هي الهدف الأساسي بل يمكننا القول انه الهدف الوحيد ، الذي عن طريق الوصول إليه، يعوض الله الناس ،عما كانوا يقاسونه من مشقة وتعب ومعاناة في الدنيا ،وهى الأمل الوحيد عند كل من يفقدون أحباءهم، حتى يصبرون أنفسهم على فراقهم ، ويتحملون الم الفراق ،على وعد في اللقاء مرة أخرى في الحياة الأخرى، وانه لابد من الإله المنعم ،الذي سوف يجمعهم جميعا يوم القيامة ،وسوف يحسن إلى الإنسانية المعذبة، حتى ينسيها كل الألم و العذاب والتعب والمشقة في الدنيا الفانية ، فالله هو الكامل الخالد؛ الذي ليس له كفوا احد ؛وهو الفعال لما يريد؛ وهو المثل الخالد الكامل، لكل ما يريده الإنسان في أن يكونه،وانه إذا أراد أي شيء يقول له كن فيكون .

وعلى الرغم من أن ثقة الكثير من الناس في الله ما زالت قائمة عند حدوث بعض الأزمات في الحياة الدنيا، وانه سوف يمسح بلطفه وإحسانه أثارها،ويخرجهم من أي أزمة بلطفه، فهو اللطيف الخبير،فان الأغلبية الساحقة من البشر، تعلق أهمية كبرى ،على وجود حياة أخرى ،وعلى الخلود فيها، كي ينال الذين أسيئ إليهم في الحياة الدنيا،وهم الأغلبية الساحقة،إحسانا بعد الإساءة ، ومكافأة على نجاحهم في الاختبارات ، الذي وضعهم فيه الله بقدرته، ليختبر صبرهم، وقوة تحملهم،ونجد من الناحية الأخلاقية ،أن اختبار الله لخلقه عامة، ولأنبيائه خاصة، مثل اختباره سبحانه لنبيه أيوب ،غير نابع بالمرة عن كراهية الله لهم بل نابع عن حبه لهم، حتى يوفيهم الجزاء الأوفى يوم القيامة.

وهناك أسباب أخرى عميقة ،في نفس كل إنسان، تساعده على احتمال أولوية فكرة الخلود، منها الفرق الملموس بين بدن الإنسان وشخصيته وروحه ، ونجد أيضا أن الأحلام وحالات الغيبوبة ،شواهد واضحة في حياتنا المعتادة عليها، بل إن الموت هو نفسه أكبر مقنع على فكرة الخلود، فالشخصية تزول وتختفي ، أين ذهبت؟ هذا سر غامض! فكيف صار الجسم صلبا! ؟

وهناك سبب أخر، يدفع الإنسان للتأكيد على احتمالية الخلود ، وهو صعوبة تصور الإنسان منا انه غير موجود ، ربما نستطيع إن نتصور موتنا، وحتى يمكننا تصور الاحتفال بجنازتنا ،ولكن نلاحظ أننا نحن الذين نتصور هذا، ونحن موجودون بالفعل ،ونريد أن نكون شاهدي عيان لما بعد الموت،ومهما بلغت تصوراتنا للمستقبل، أو رجوعنا إلى الماضي، فإننا نكون نحن المشاهدين لمأساة موتنا، وكل هذا يضعنا في مأزق ،هذا المأزق الذي يتسم بصورة من حب الذات،هو الذي يربطنا بشدة، ويدفعنا إلى الاعتقاد الفطري، في أول الأمر، ثم إلى الاعتقاد التلقائي في حياة الخلود في أخر الأمر،والمراد بالأمر هنا الحياة، فوجود الدافع الفطري في كل منا إلى التعلق بالحياة، والى الهروب من الموت ، بكل ما نملك من عزم ناتج عن الإرادة في الحياة ،وتلك الإرادة الفطرية، التي تبدأ مع الإنسان منذ بدء حياته، وفى أثناء تنازعه على البقاء، تكون هي المتحكمة في كل تصرفاته ،وتحرضه على الفرار من الموت ،ولكنه يرى الموت الذي لا مفر منه، أمامه في كل مكان وفى كل حين، فيحاول التنصل منه بلا فائدة ، وبهذا يتولد لديه الدافع الفطري للخلود الشخصي.

ونلاحظ أن الدافع الفطري إلى الخلود الشخصي أو الرغبة العامة في الخلود، يوحيان بان الغريزة الفطرية لحفظ النوع ،لها دخل كبير في تحقيق الخلود الشخصي ،وإشباعها من خلال تحقيق الإنجاب وتكوين الأسرة ،ثم البحث عن من يخلفه في الحياة من أولاد وأحفاد.

وفى ضوء التدقيق، في كل ما سبق، من أفكار و حجج وبراهين فلسفية ودينية ،متعلقة بفكرة الخلود، أو الحياة بعد الموت، يتضح أن التبرم والضجر من الموت، عند بعض الناس، يرجع إلى فشلهم في تحقيق إشباع حاجاتهم وبواعثهم الطبيعية إشباعا كاملا ، فإذا ما عاشوا حياة طويلة ناضجة ،وحققوا إشباعا كاملا لحاجاتهم وبواعثهم الطبيعية ، فإنهم يقبلون على الموت، كنهاية طبيعية للحياة .

ونلاحظ أن سمات الإنسان الطبيعية، قد ساعدته على جعل الرغبة في الخلود المحتمل كامنة في قلب كل إنسان ،تنمو وتتطور حتى أنها تصبح في اغلب الأحيان اتجاها عقليا لدى الإنسان ،أو اتجاها حضاريا، يميز كل حضارة عن غيرها، وقد جعلت السمات فكرة الإيمان بالخلود أمرا طبيعيا ، بمعنى انه يكون شبه فطرى ، يقبله الإنسان بدون تلقين، واكبر مثال على ذلك الأطفال والبدائيين وغير المتعلمين من الناس، الذين يقبلون فكرة الخلود ،دون أي جدال أو تدريب، فالموت وحده هو الذي علمهم ذلك ،ولكنهم وغيرهم لا يستطيعون قبول فكرة وجود الله والإيمان به ،بنفس السهولة التي قبلوا بها الخلود ،وخاصة فكرة وجود الله المتطورة ،وفقا لتعاليم الأديان السماوية، التي تدعوا إلي التوحيد ،وأكبر دليل على ذلك ،هو أن الله قد اختار مجموعة من البشر، سماهم الأنبياء والرسل لتعليم الناس أمور الدين ،واثبات وجود الله لكل من ينكرها ،وتحذيره من العذاب ، الذي سوف يناله إذا لم يؤمن بالله .

ولا جدال في وجود بعض الناس، وبعض الشعوب ، التي كانت فكرة وجود الله، وما زالت عندهم، أهم بكثير من فكرة الخلود، ففي التوراة مثلا نجد أن فكرة وجود الله عند اليهود، أهم بكثير من الفكرة الضعيفة عندهم للحياة بعد الموت،

فان أهمية الخلود لديهم، بالنسبة إلى فكرة وجود الله، أقل بكثير، وقد يكون هذا بسبب حبهم الشديد للحياة، وللتمتع بها، ومحاولاتهم إشباع كل بواعثهم الطبيعية ، إشباعا كاملا في الدنيا، بدون النظر للطريقة، التي يتم بها هذا الإشباع.

ونجد في كل الأوقات، على مر العصور ،عددا من الناس ومنهم الفلاسفة ،وغيرهم، يؤمنون بالله ولكنهم لا يؤمنون بالخلود ،وعند هؤلاء الأشخاص، نجد أن لمشكلة الخلود وليس الإيمان بالخلود نتائج هامة، فكونهم يواجهون شبح الموت في كل وقت، فان عليهم أن يصلوا إلى رأي فيه ،وأن يقرروا ما إذا كانوا خالدين أو فانين ؟ وكانت النتيجة إنهم قرروا أنهم فانين ،ولكن هذه النتيجة دفعتهم إلى إنكار الخلود، لإشباع كل بواعثهم في الدنيا ،وإنكار ما دون ذلك.

وبملاحظة رأى جمهور العلماء المسلمين، بما يشبه الإجماع حول فكرة أن الروح بعد مفارقتها للبدن بالموت، تعود إليه مرة أخرى في قبره ،وأن القبر حياة، ولكنها ليست كحياته في الدنيا ،وليست أيضا بحياة الخلود، بل هي حياة أخرى تعاد فيها الروح إلى البدن ، إعادة غير الإعادة السابقة ،وذلك ليمتحن ويسأل في قبره ،وقد دل على ذلك النص الصحيح، لسيدنا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ،فعن البراء بن عازب( رضي الله عنه) قال ،خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار،فانتهينا إلي القبر…فجلسنا وجلس رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وكأن على رؤوسنا الطير ،فأرم الرسول قليلا(أي سكت)فلما رفع رأسه قال:إن المؤمن إذا كان في قبل الحياة ودبر من الدنيا،وحضره ملك الموت ، ونزلت عليه الملائكة ومعهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة،فجلسوا منه مد بصره،وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ،ثم قال اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلي رحمة الله ورضوانه…فإذا خرجت صلى عليها كل ما بين السماء والأرض ،إلا الثقلين ،ثم يصعد به إلى السماء ،فتفتح له السماء ويشيعه مقربوها حتى يصل إلى العرش، فإذا انتهى إلى العرش ،كتب كتابه في عليين ،ويقول رب العزة ؛ردوا عبدي إلى مضجعه (في قبره)،فاني وعدتهم إني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى،فيرد إلي قبره ،فيأتيه منكر ونكير…فيجلسانه و يسألانه من ربك ؟فيقول ربي الله،فيقولان :صدقت،ثم يقال له وما دينك ؟فيقول ديني الإسلام، فيقولان: صدقت،ثم يقال له ومن نبيك؟ فيقول محمد رسول الله، فيقولان: صدقت ،ثم يفسح له في قبره مد بصره،ويأتيه رجل حسن الوجه ،طيب الرائحة ،حسن الثياب…فيسأله من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح،ثم يفتح له باب الجنة فينظر إلى مقعده ومنزله منها…حتى تقوم الساعة.

أما الكافر ،إذا كان في دبر من الدنيا ،وقبل من الآخرة،وحضره ملك الموت ،ونزلت عليه الملائكة من السماء ،ومعهم كفن من النار وحنوط من النار ،فيجلسون منه مد بصره، وجاء ملك الموت فيجلس عند رأسه ؛ثم قال :اخرجي أيتها النفس الخبيثة ،اخرجي إلى غضب الله وسخطه ،فتفرق روحه في جسده ،كراهية أن تخرج ، لما ترى وتعاين فيستخرجها ،كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، فإذا خرجت نفسه لعنه كل شيء بين السماء والأرض ،إلا الثقلين، ثم يصعد إلى السماء ، فتغلق دونه فيقول رب العزة :ردوا عبدي إلى مضجعه…فترد روحه إلى مضجعه (في قبره) فيأتيه منكر ونكير ..فيجلسانه ثم يقولان يا هذا من ربك ؟فيقول لا أدري فينادى من جانب القبر لا دريت ، فيضربانه بمرزبة من حديد ..ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الثياب؛ منتن الريح، فيقول جزآك الله شرا…فيقول من أنت، فيقول أنا عملك الخبيث، ثم يفتح له باب إلى النار ، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة.

ومما سبق يتضح ،عمق فكرة الخلود في الإسلام ،فحياة الإنسان على ثلاث مراحل تبدأ بالحياة الدنيا ، ثم حياة البرزخ (القبر)، ثم الخلود بعد يوم القيامة ،إما في الجنة أو النار، فأهل الجنة هم فيها خالدون وأهل النار هم فيها خالدون ، فالمرد إلى الله ؛خلود بلا موت، فعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال،قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يؤتى بالموت يوم القيامة ،كهيئة كبش املح ، فينادى به يا أهل الجنة ..هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت ، ثم ينادى مناديا يا أهل النار …هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه …فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول يا أهل الجنة ،خلود فلا موت ،ويا أهل النار، خلود فلا موت.

الكاتب : أحمد الجوهري كاتب
اخبرنا شيئا عن نفسك.

إنضم إلينا وشارك!

إنضم إلينا الان
انضم إلى مجتمعنا. قم بتوسيع معرفتك وشارك أفكارك ومقالاتك!

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن