إشكالية العقل المتحرر والحمق الفكري

     هنا خطأ منهجي وتصوري أيضًا يقع فيه كثيرٌ ممن يتكلمون في التجديد والحداثة وغيرها من الأمور التي قسمت الكتابات إلى كتابات معاصرة وكتابات قديمة وهي الكتابات الموصوفة بالتراث, وهذا الخطأ التصوري في عدم إدارك منظومة العلم وأدواتها في استخراج الأحكام وطريقة استخراج العلم الذي نستخرج به الأحكام , وبفقدان هاتين الخاصيتين تظهر مشكلة المطورين والمجددين ثم يتبعه الحمق الفكري والتجديدي.

     العلم له منظومة تسير فيها لا يمكن أن تخرج منها بحيث لو خرجت منه فهو بذاته كخروج الكواكب من مساراتها, فمنظومة العلم تعتمد أولا على التلقي ثم التدوين ثم الإدارك ثم المناقشة ثم تدوين الملاحظات والفوائد ثم ظهور الملكة العلمية لدى المتكلمين .

     واختزال الحركة العلمية في القراءة ثم طرح ما يطرأ على الأذهان على أنه حقائق وبراهين وتجديد هذا هو باب البدعة الذي نهى عنه الرسول الكريم ﷺ, لأن الإدارك لم يحدث بعد بمجرد القراءة والاطلاع, ويحدث لي استغراب أن علماء الفلسفة وغيرهم يعرفون النظريات القديمة ثم يناقشون وتظهر لهم انتقادات جديدة على النظرية أو تظهر لهم نظريات أخرى, والمجددون يحكمون على علماء الشريعة بالتراثيين والظلاميين وغيرها من الأمور التي تظهر ريبة في هذا الاتجاه.

     لنفهم الآن أن قانون استخراج الأحكام الشرعية من النصوص ليس هو الأحكام الشرعية التي تم استخراجها من النصوص, فطريقة معرفة الحلال والحرام ليس هو الحلال والحرام, والمعنى الأوضح أن كل الأوامر التي جاءت في القرآن والسنة تفيد الالتزام بهذه الأحكام ويكون المخالف لها مرتكبًا للحرام, هذا قانون استخراج الأحكام , وبهذا نجد أن الله أمر بإقام الصلاة فهذا أمر ومعناه أن ترك الصلام حرام.

    هذا المعنى داخل في منظومة الحركة العلمية, والذي يقبله العلماء أن نختلف في جزئيات هذه الحركة من حيث التفسيرات داخل العمل الواحد لا أن ننكر العمل الواحد في الحركة العلمية وننقضها, ومعناه أننا نقبل القول بأن الأمر قد لا يفيد الوجوب أو أنه يفيدها في حالات وحالات أخري يفيد الاستحباب, هنا يقبل هذا ويظهر الخلاف المشروع والذي يؤسس عليه العلماء المذاهب الإسلامية الفقهية.

     أما ما يصنعه الحمق الفكري المعاصر في هدم قانون الاستنباط لمجرد الحداثة أو تقليد الأطر الفلسفية أو لمنازعات سياسية فهذا لا يقبله علماء الإسلام ولا من له عقل يزن به الأمور.

      والأمر الثاني في الحركة العلمية هو التلقي وهو  أمر لا يُتنازل عنه أبدًا في حركة العلوم الإسلامية وغير الإسلامية, لأن العلم هنا يناقش النصوص القرآنية والحديثية, والأحكام مفسرة للنصوص وليست مقيدة لها, وعلى هذا الفهم يكون العالم مفسرًا  للنصوص, ويحازيه عالم آخر يفسر ذات النص بمعنى آخر دلت عليه سياقات النصوص.

      وهكذا تتوالى نظريات التفسير وطرق استنباط الأحكام لنصل إلى معنى الآيات التي نتعبد بها ونحتكم إليها, والسؤال للحمق الفكري المعاصر كيف تعرف تفاصيل هذه التفسيرات وطرق استنباطه وكل مفسر قد لا يذكر لك كيف فسَّرها ولا ماهية المدرسة التي سار عليها في معرفة الاستنباط أو التفسير من تلك النصوص بغير التلقي الصحيح؟

     والمشاهد أن المجددين لديهم فراغ كبير وسطحية عظيمة في إعمال العقل على الموجود الذهني شريطة أن نحسن بهم الظن فنضعهم في مقام السفهاء, فيعمل العقل لديهم على الفراغ فينتج لنا أوهام ليس لها حقيقة, فيقولون إن المرأة غير ملزمة برضاعة ولدها وتستحق الأجر من الزوج, وكلاب الشوارع تطبق مشاعر الحنان بالفطرة التي خلقها الله عليها أكثر من المتكلمة لأنها ترضع صغارها وتحنو عليهم بدون مقابل, أعرفت الآن أين يذهب الفراغ العقلي بصاحبه؟ يكون الكلب والبقرة والجاموس أعلم بالمنطق والبيان والتطبيق من مرددي الغباء العقلي.

     قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾.

     من أين علمنا أن المرأة المرضعة تتقاضي الأجر على إطعام ولدها, سبحان الله ! أعرف نساء يذهبن إلى العمل في مشقة وتعب من أجل إطعام الصغار, ثم يأتي الحمق والهمج الفكري المعاصر ليقرر أن الرضاعة ليست واجبة.

     والأمر الثالث في حركة العلم هو التدوين وهو يفتح بابًا كبير من الموضوعات والمناقشات وتقيد العلم, ظني ورأيته أن واحدًا من حمقى الجيل التنويري لا يعرف قراءة عنوان الكتاب, فكيف يمكن أن يفهم ما يحويه هذا الكتاب, وآخر يقيم الدنيا على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فى موضوع التكفير وابن تيمية نفسه ينقض هذا الاتجاه وهو منشور في مجموع الفتاوي, ولكن للعلماء طريقة في التدوين والتصنيف لا يعرفها هؤلاء الشيعية المتنورين, فلم يمسك قلمًا يحرر به فكرة خلف عالم ولم يعرف طريق ربط الأدلة وإنشاء العلاقات بينها واستخراج المعنى ليقرر أن الحجاب ليس فريضة.

     والأمر الرابع وبعد هذا العناء الذي يأخذ سنوات في التلقي والتدوين والمعرفة يقال لهذا المدون هل أدركت معاني ما كتبت أم لا؟ لأن العلوم الإسلامية ليست العبرة فيها بالحفظ كما يظن بعض الناس, والحفظ مهم جدًا لكن إدارك المعاني للنصوص المحفوظة هو الأهم وهو الذي يقع فيه التباين بين عالم وآخر وبين حكم وآخر.

     فالإدراك هو استيعاب المعنى الذي حرر , والمشكلة التي تواجه الكثير من المتعلمين ليست في الأجزاء السابقة إلا في مسألة الإدراك وهو الفهم, ولذلك عبر الله تعالى بهذا المعني في فهم سليمان عليه السلام, ليست العبرة إلا بالفهم, ولا أظنه خالط فهوم هؤلاء الحمقى.

     ومعروف أن حرف الجر  ( في ) يحمل معنى الظرفية, ولكن فهم النصوص ليس بهذه الحرفية فلو قال قائل أين الله ؟ قلنا في السماء, والمعنى أنه على السماء فوق عرشه سبحانه وتعالى, فإدراك المعنى هنا من سياق الكلام ومن النصوص الأخرى التي تفيد هذه المعنى, وهو التعبير الذي استخدمه فرعون في تهديده لقومه أنه سيصلبهم في جذوع النخل والمعني وإدراكه على جذوع النخل.

والأمر الخامس : هو ظهور علامات وأمارات تدل على الفهم والإدراك وهو الملكة الفكرية والناقدة والمحللة والتي تستطيع الإضافة, وبهذا نعرف أن الصورة تجديد الحركة العلمية ولكن الباطن إما الشهرة والمال وإما نقض هذا الدين ونسفه لمصلحة أحد, وكلامها ظاهر وواضح.

   وبرهان ذلك البسيط هو لماذا تترك المساحات الكبيرة للملاحدة وغيرهم ولا تترك لعلماء المسلمين ؟

     وكيف إذا ظهر عالم ليس من علماء الأزهر اتهم أنه ليس متخصص مع أن الطاعن في الدين ظاهر الإلحاد ليس من الأزهر ولم يقل فيه أحد هذا؟

     وأين تقع هذه المناقضات العلمية في كتب العلماء كمنهجية علمية اختلت توازنها داخل الكتاب؟ وهل لما ظهر قام عليها النقاد بتوضيحها وتفسيرها أو تصحيحها ؟

فظهر بشكل كبير أن كثيرًا ممن يناقش القضايا هذه من أجل التشويش والطعن في مسارات علماء الإسلام التي تدرس كمنهجية في كليات العالم الحديث.

وعلى هذا فإن الإشكالية عندهم هو الطعن في الإسلام والتشكيك وتمديد الفتنة بين أبناء المسلمين وشبابهم .. والله هو الرقيب.

الكاتب : ايهاب صلاح كاتب
اخبرنا شيئا عن نفسك.

إنضم إلينا وشارك!

إنضم إلينا الان
انضم إلى مجتمعنا. قم بتوسيع معرفتك وشارك أفكارك ومقالاتك!

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن