كيف ساهمت العوامل الاقتصادية والاجتماعية في سقوط المماليك؟

سلطنة دولة المماليك واحدةٌ من أهم الدول وأشهرها في العصور الوسطى الإسلامية، حيث حكم المماليك مصر والشام وبلاد الحجاز، والنوبة، وبرقة في الغرب( ليبيا الحالية)، تأسستْ دولة المماليك عام 648هــ، في ظروف بالغة القسوة كانت تمر بها مصر وعموم العالم الإسلامي؛ بسبب الغزوات المغولية/ التتارية القادمة من آسيا الوسطى في غرب الصين ومناطق منجوليا والتبت.

وانتهى حكم المماليك فعلياً بدخول العثمانيين مصر، في عام 923هـ/ 1517م، بعد معركة الريدانية( العباسية)، وهزيمة السلطان المملوكي طومان باي الثاني ثم شنقه، فكيف ساهمت العوامل الاقتصادية والاجتماعية في سقوط الممماليك؟

عوامل وبواعث سقوط السلطنة المملوكية.

لا نستطيع الإدعاء بوجود عامل واحد فقط، أدى إلى السقوط، ولا نستطيع الإدعاء كذلك؛ بأن السقوط جاء مفاجئاً وسريعاُ، إنَّ البحث في انهيار الدول والإمبراطوريات لأمر شديد الصعوبة، ومحفوف بالمخاطر؛ فقد ينتهي بالباحث أو المحلل إلى التسطيح والابتذال؛ لذا نحن لا نقول بفكرة العامل الواحد، ولا فكرة المفاجأة؛ لأن نظرتنا للتاريخ تختلف عن تلك النظريات والرؤى المثالية؛ فهي لا تنظر إلى التاريخ من خلال منطقه الداخلي، ولا من خلال قوانيته المرتبطة بالمجتمع( العمران)، كما علمنا ابن خلدون.

هناك عدة عوامل نعرف منها كيف سقطت دولة الممماليك، وهي العوامل الاقتصادية والاجتماعية- العوامل  السياسية- العوامل العسكرية- العوامل الإقليمية والعالمية. الناحية الأخرى سقوط المماليك لم يكن مفاجئاً ولا عارضاً؛ فالدولة كان ينخر في جسدها السوس، ويدب فيه الوهن منذ أن تأسست دولة المماليك الثانية( المعروفة بدولة المماليك الجراكسة/ الشراكسة)ـ في العقدين الأخيرين من القرن الثامن الهجري: 784هـ، حيث بدأت الأزمات تتراكم شيئاً فشيئاً حتى الوصول لمحطتها النهائية؛ وعندئذٍ تتفجر الأزمات كدوي مفاجىء!

وهنا سنركز على العوامل الاقتصادية والاجتماعية بوصفها الأساس في قيام وسقوط الدول.

العوامل الاقتصادية

العوامل الاقتصادية هي الأساس في فهم قيام وانهيار الدولة، وهي التي تلضم وتربط كل العوامل ببعضها( اجتماعية وسياسية وعسكرية، وأوضاع إقليمية ودولية. ولا يخفى على القارىء الحصيف والمهتم بتاريخ المماليك، دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في ضعف ثم سقوط سلطنة المماليك.

الأزمات الاقتصادية:

يمكن اعتبار العصر المملوكي أكثر العصور في سوء حظه؛ بسبب كثرة الأزمات الاقتصادية؛ مما جعلها موضوعاً لدراسات كثيرة منها: دراسة الباحث: عثمان على محمد عطا: الأزمات الاقتصادية في العصر المملوكي وأثرها السياسي والاقتصادي( 648- 923هـ/ 1250- 1517م)، وهناك دراسات أخرى بالطبع.

أبرز مظاهر الأزمات الاقتصادية: ارتفاع أسعار السلع وخاصة الأساسية؛ وذلك بسبب احتكار التجار، وفساد الجهاز الإدراي المملوكي في أحيان كثيرة، وخاصة أيام السلاطين الضعاف. وأحياناً شهدتْ بعض الفترات اختفاء السلع من الأسواق وخاصة السلع الأساسية.

إثقال كاهل الفلاحين في الأرياف والحرفيين في المدن بأنواع شتى من الضرائب والمكوس، والمبالغة في مقدارها؛ مما تسبب مثلا في حدوث نزوح من الأرياف إلى المدن؛ وتحول الحرفيين في المدن إلى الفتونة، ومن ثم الالتحاق بالحرافيش والذعار( اللصوص بتعبير المؤرخين القدامى).

تدهور قيمة العملة خاصة منذ عصر سلطنة برسباي في دولة المماليك الثانية( الجراكسة)،  واستمر الوضع في التدهور حتى زمن سلطنة الغوري.

كان لاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح من قبل البرتغاليين؛ سبباً أساسياً وجوهرياً قي تفاقم الأزمات الاقتصادية لسلطنة المماليك؛ كان طريق التجارة المار عبر البحر الأحمر؛ تمر فيه تجارة الشرق الأقصى من الهند والصين وخاصةً البهارات والتوابل( وكانت تمثل أثمن وأغلى السلع في ذاك الوقت؛ ويتم استهلاكها في أوروبا)؛ يساهم بنصيب كبير في إيرادات الخزينة المملوكية من خلال الضرائب من جهة، وتجارة التوابل والبهارات التي كان بعض سلاطين المماليك وأمرائهم يساهمون فيها برؤوس أموالهم.

فتحويل طريق التجارة لرأس الرجاء الصالح أفقد المماليك مورداُ اقتصادياً ومالياً مهماً؛ ساهم في دق المسمار الأخير في نعش السلطنة.

العوامل الاجتماعية

بسبب وضعية النظام المملوكي كنظام طبقي إقطاعي شرقي ؛ ذلك جعل السلطنة الممملوكية عرضة لتوترات اجتماعية وصراعات طبقية؛ مما ساهم في إضعاف الدولة، ومن ثم سقوطها. انقسم المجتمع الممملوكي إلى طبقات: الطبقة العليا وعلى رأسها المماليك، وهي طبقة تتمتع بكافة الامتيازات، وتمتلك معظم الآراضي الزراعية الخصبة؛ وأدوات الإنتاج مثل مطاحن الغلال، ومعاصر الزيوت، ومصانع السكر…إلخ.

وهناك طبقة الفلاحين في القرى والأرياف، وتعتمد على النشاط الزراعي وتربية الحيوانات لكسب قوتها؛  وهي  تتعرض للاستغلال من قبل المماليك، كما تتعرض للسلب والنهب من قبلهم؛ فضلاً عن إرهاق كاهلها بالضرائب والمكوس والمبالغة في تقدير الخراج( ضريبة الأرض الزراعية/ الضريبة العقارية)؛ مما جعلها في وضع بائس؛ وغير قادرة على الإنتاج؛ بسبب هجرة الكثر منها إلى المدن؛ وإزهاق أوراح الآلاف منها بسبب الأوبئة والطواعين، وذلك ما انعكس بالسلب على قطاع الزراعة بوصفه القطاع الأهم اقتصادياً.

طبقة الحرفيين: وهي تعيش في المدن، وتعمل في الحرف اليدوية مثل النجارين والحدادين والنساجين….إلخ، وهم منضوون تحت نظام الطوائف( ما يشبه النقابات في عصرنا الحديث)، وحال هؤلاء لم يكن جيداً؛ فهم يتعرضون من آن لآخر لظلم المماليك، وتتعرض حوانيتهم وورشهم للسلب والنهب، فضلاً عن ما يجبى منهم من ضرائب باهظة.

طبقة التجار: لا يمكن اعتبار طبقة التجار شريحة واحدة، هناك شريحة التجار الكبار؛ وهم الأكثر ارتباطاً من خلال مصالحهم بالسلاطين والأمراء، والشرائح المتوسطة والفقيرة من التجار، وفي أحيان ليست بالقليلة يتعرض التجار للمصادرة من قبل بعض السلاطين والأمراء( وخاصة أيام سلطنة الغوري؛ بسبب الوضع الاقتصادي المزري وإفلاس الخزانة).

وهناك فئة العلماء والفقهاء: ومهمتها مراعاة الجوانب الشرعية والدينية، وبعضها يتمتع ببعض الثراء والبعض الآخر متوسط الحال، والبعض الثالث من الفقراء.

طبقة العربان: وهي طبقة مثلت إزعاجاُ كبيراً للسلطنة المملوكية عبر قرونها الثلاث، سواء في مصر أو الشام، وتتكون من القبائل العربية التي استوطنت مصر منذ الغزو العربي؛ وكانت حياتها تقوم على سلب ونهب الفلاحين؛ كما كانت تقوم بثورات ضد السلطة الممملوكية من آن لآخر.

بعد رسم هذه الصورة السريعة للتركيبة الطبقية للمجتمع المملوكي في مصر والشام، نخلص أن هذا الوضع يؤدي إلى توتر دائم وصراع لا ينتهي، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصاديةـ وانتشار الأمراض والأوبئة.

ولا يفوتنا أن نشير إلى دور الأمراض والأوبئة في مفاقمة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؛ ولسوء الحظ أيضاً كان العصر الممملوكي عصر أوبئة بامتياز، وأبرز هذه الأوبئة: الوباء الأسود في القرن الرابع عشر الميلادي، الذي اجتاح الشرق الأوسط وأوربا، كانت الأوبئة تفتك بحياة الآلاف من الناس؛ بل هناك قرى ومدن بكاملها كان يبيدها الأوبئة؛ وهو ما فاقم – كما ذكرنا- من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

انعكاسات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ونتائجها

عكست الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية آثارها السلبية على مجمل الأوضاع؛ فسياسياً  كثُرتْ الفتن والقلاقل، والخروج على السلاطين، بل وقتلهم؛ وهذا أضعف الدولة وجعلها تموت بشكل بطيء.

أثرتْ العوامل الاقتصادية والاجتماعية على أداء الجيش المملوكي في المراحل المتأخرة من الدولة؛ وهذا يفسر هزيمته النكراء أمام البرتغاليين في معركة ديو البحرية 1509م، ثم العثمانيين في معركتي مرج دابق والريدانية: 1516، 1517م على التوالي,

وكان من أبرز نتائج هذا الوضع انتشار الرشوة والبرطلة؛ لدرجة أن منصب مثل القضاء والحسبة كان يتم شرؤهما، مثال المحتسب بركات بن موسى اشترى منصب الحسبة من الغوري؛ حسب ما ذكر ابن إياس في بدائع الزهور في وقائع الدهور.

خلاصة

من خلال التطواف السريع رأينا كيف كان للعوامل الاقتصادية والاجتماعية الأثر الأكبر في سقوط سلطنة المماليك المدوي بعد معركتين كبريتين: مرج دابق والريدانية.

العوامل الاقتصادية متعددة المستويات، ما بين ارتفاع أسعار، وأزمة عملة، وفرض ضرائب باهظة….إلخ، ثم كانت العوامل الاجتماعية كمصاحب للعوامل الاقتصادية؛ فذلك وغيره أدى إلى الكيفية التي سقطت بها دولة المماليك 1517/ 923هـ.

ممدوح مكرم

باحث في العلوم السياسية والتاريخ.

 

 

الكاتب : ممدوح مكرم كاتب
اخبرنا شيئا عن نفسك.

إنضم إلينا وشارك!

إنضم إلينا الان
انضم إلى مجتمعنا. قم بتوسيع معرفتك وشارك أفكارك ومقالاتك!

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن