كيف ساهمت الصدفة فى صنع التاريخ – الحلقة الأولى ج١

من المؤكد أن البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم ويُدوٌّنونه بأيديهم ، ولا شك فى أن القدر يصطفى من بنى البشر بعضهم لنيل العظمة
وبعض الأحداث لتطفو على سطح التاريخ مؤثرة فى سيره .

ولكن هل بالفعل دائما ما تكون كل أفعال البشر من صنع أيديهم ، وجميع الأحداث التى تؤثر فى تاريخهم تحت سيطرتهم ؟
أم أن للصدفة تواجدا عظيما يجعلها عامل فاعل وبقوة فى المنتج النهائى للحدث التاريخى ؟

ونحـن هنـا نتحـدث عـن الصدفـة كمعيـار أساسـى ساهم فى صنـع التاريـخ ، و” صاحبـة الجلالـة الصدفـة ” كما أطلق عليها الفيلسوف
والأديب الفرنسى ” فولتيير 1694 – 1778 ” عرفها الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسى ” أنطوان كورنو 1801 – 1877 ” بأنها الالتقاء المتزامن لواقعتين لا يوجد بينهما رابط وإن كان لكل منهما سببه ، كما كان يقول الفيلسوف والمفكر الاستراتيجى الألمانــــــــى
” كارل فون كلاوزفيتز 1780 – 1831 ” لا يوجد نشاط إنسانى يرتبط أكثر وبشكل أساسى وعلى نحو كامل وكونى بالصدفة كالحرب .

فى تلك السلسلة من المقالات سوف نستعرض مجموعة من سير العظماء وبعض أحداث التاريخ ونتتبع دور الصدفة فيها وكيف ساهمت فى سير الأحداث وصنع التاريخ .

* محمد على من تاجر تبغ مقدونى إلى مؤسس آخر أسرة ملكية فى مصر(1) :

إن الباحث فى سيرة ” محمد على باشا 1769 – 1849 ” مؤسس آخر أسرة ملكية فى مصر سيكتشف منذ الوهلة الأولى الغموض الذى يحيط بأول ثلاثين عاما من حياته فليست هناك سيرة متصلة موثقة لتلك الفترة من حياته أللهم إلا بعض الأخبار المتفرقة و التى حكاها هو بنفسه إما للمقربين منه والذين ضمنوها كتبا صاغوا فيها سيرته مثل طبيبه الخاص ” أنطوان كلوت بك 1793 – 1868 ”
وغيره ممن عملوا فى إدارة شئون البلاد فى عهده أو لبعض القناصل والرحالة والمراسلين الأجانب الذين كان الباشا يحرص على استقبالهم ومسامرتهم ومحاورتهم فى شتى شئون السياسة والإدارة والذين إما نشروها فى بعض الصحف الأوروبية أو ضمنوها إحدى كتبهم فقد كان بالفعل الشغل الشاغل للعالم أجمع طوال فترة ولايته .

وسواء أكانت تلك الأخبار التى رواها ” محمد على ” عن حياته السابقة على نزوحه لمصر إبان الحملة الفرنسية حقيقة خالصة أو تحمل فى طياتها بعض المبالغات المقصودة ليصيغ أسطورته الخاصة فهذا لا يهمنا فنحن لسنا بصدد تحقيق صحتها من عدمه ولكننا نعنى هنا بإبراز بعض الوقائع التى ساهمت بقوة فى مسيرته ويمكن أن نطلق عليها صدفة أثرت فى مسار الأحداث وغيرت مجراها .

وبمزيد من التدقيق فى تلك المصادفات سنكتشف بالتأكيد أن هناك منها ما يشتد تأثيرها عن غيرها ولكن قد تكون تلك الأشد تأثيرا مترتبة على الأدنى فى التأثير فتصبح الأخيرة بذلك مقدمة للتالية لها ولم تكن الأولى لتحدث لولا حدوث سابقتها .

الميلاد و النشأة :

ومـن الأمثلـة الواضحـة علـى ذلـك و لادة ” محمد على ” مـن والديـن لـم يخترهمـا ولكـن ظروفهمـا الاجتماعيـة أثرت بشدة فـى حياتـه
ومسيرته المهنية فيما بعد ، فقد أجمعت كل المصادر التاريخية التى تناولت سيرة الباشا أنه ولد لأب يعمل كضابط عسكرى مسئول عن تأمين الطرق فى بلدة قولة المقدونية شمال اليونان كما أنها أجمعت أيضا على الصداقة العميقة التى جمعت بين الأب ” إبراهيم أغا القوللى ” و حاكم قولة ” الشوربجى إسماعيل ” تلك الصداقة التى ستولد المصادفة الأولى فى حياة ” محمد على ” بالمشاركة مع وفاة والديه وعمه وهو بعد مازال صبيا فيتولى الحاكم أمره وهنا تأتى الفرصة فسوف يوجه الرجل الفتى الصغير للانخراط فى حياة الجندية مبكرا ملازما لابن الحاكم نفسه ولن يرفض الفتى تلك الفرصة بل سيجتهد بما جبل عليه من نشاط وعزة نفس وشغف بالفخار والمجد حتى يصبح شابا فارسا جلدا فى الثامنة عشر من عمره ليجد نفسه متقلدا ذات المنصب الذى كان لأبيه من قبل مسئولاً عن تأمين حدود المقاطعة ضد قطاع الطرق وجابياً للضرائب المستحقة للخزانة السلطانية على الأراضى التابعة لها فى تلك المنطقة كل هذا وصل له الشاب بجهده الذى بذله نابعا من خصاله الشخصية ولكن دعونا نطرح هنا سؤالا استنادا على التمرين الفكرى الذى ابتكره الفيلسوف الفرنسى ” شارل رونوفيي 1815 – 1903 ” ….ماذا لو لم يكن والد الصبى الصغير صديقا للحاكم ؟

هناك احتمالات كثيرة للإجابة على هذا السؤال ولكن أحد تلك الاحتمالات أن الفتى كان من الممكن مع عدم وجود إخوة أو أقارب يرعونه و يدعمونه أن يصبح أحد المجرمين أو حتى قاطع طريق ممن كان يكافحهم بنفسه فى الواقع و هنا تدلنا تلك الإجابة المحتملة من ضمن إجابات كثيرة مقترحة على مدى تأثير تلك الصدفة على مسار حياته وسوف يظهر تأثيرها أشد وضوحا فيما سيلى من أحداث.

الزواج الميمون :

وهنا سيتدخل القدر مرة ثانية معلنا ميلاد فرصة جديدة بمحض الصدفة ذلك أن إحدى قريبات  الحاكم ” الشوربجى إسماعيل ” قد ترملت حديثا حيث عقد قرانها على أحد أعيان البلدة ثم توفى عنها قبل إتمام الزفاف تاركا إياها أرملة شابة عذراء ولـيس هـذا فقـط بـل
و ثرية أيضا فقد ورثت عن أبيها وزوجها المتوفى حديثاً ما يجعلها لا تحتاج لا إلى المال ولا الرعاية حتى ولكن فى ذلك الزمن أى أواخر القرن الثامن عشر لم يكن هناك مكان مقبول للمرأة إلا بيت الزوجية كان على الحاكم أن يجد لها – تحت إلحاح من الفتاة نفسها – زوجا مناسبا تحتمى بداره فى نفس الوقت الذى بدأ نجم ” محمد على ” يسطع فى سماء الولاية بما أبداه من براعة فى أداء عمله مما عاد على سمعة الحاكم إيجابا بالتأكيد ويقرر الحاكم مكافأته بترتيب تلك الزيجة والتى كانت بالفعل إحدى المحطات الهامة فى حياة الشاب النجيب الذى لم يجد صعوبة أبداً فى الاستفادة من تلك الفرصة بعد أن اكتسب الخبرة اللازمـة طوال الأعـوام السابقـة بأقل جهد
وأسرع وتيرة فسرعان ما تم الزواج وأصبح ” محمد على ” زوجا لامرأة جميلة ذات 
حسب وثراء ولكن تأثير الفرصة الأولى التى ولدتها الصدفة لم ينتهى بعد و سيظل مستمرا إلا أن تلك الصدفة الثانية هى الأخرى سوف يكون لها تأثيرها الخاص فى سير الأحداث لذلك قلنا بأنهامحطة هامة و ليست مجرد نقطة عابرة على الطريق .

وهنا يبرز مرة أخرى نفس السؤال المطروح سابقاً :

ماذا لو لم يتوفى زوج “أمينة هانم” الأول مبكراً لتتولد فرصة “محمد على” فى الزواج منها فى الوقت المناسب ؟

والإجابة بالتأكيد لم يكن “محمد على” تزوج من “أمينة هانم” بما يترتب على ذلك من احتمالات كثيرة أولها حرمانه من المدد المالى القادم من تلك الزوجة الثرية والذى بسببه تولدت الصدفة التالية على اعتبار أنه من المحتمل ألا يتزوج أو يتزوج من امرأةمن العوام لا تملك المال ، كذلك فقد رزق من تلك الزوجة بالأبناء الذين مثلوا امتداداً لمشروعه السلطوى فيما بعد وكان من الممكن بدونهم أن تنتهى سلالته ويصبح ما بذله من جهد عملاً أبتراً لا طائل من ورائه فيما بعد، والاحتمالات بالطبع هنا مفتوحة للخيال والتصور .

لقد وصفنا زواج “محمد على” من تلك السيدة الثرية بالمحطة الهامة لأن هذا الزواج سيمهد له بداية لمشروع جديد حتى وإن لم ينتهى ذلك المشروع إلى النجاح المأمول إلا أنه سيعطى لشخصيته بعداً جديداً ألا وهو تجارة التبغ وسيكون مشروعاً تعليمياً بامتياز ولأن الشاب لم يحظى بأى نوع من أنواع التعليم الأكاديمى فقد كان جل اعتماده تعليمياً على التجارب الحياتية ، إلى هنا فكل تلك الأمور عادية جداً ولكن تأتى الصدفة من خلال تلك المحطة ، ففى نفس الوقت الذى قرر فيه الشاب دخول مجال تجارة التبغ كان هناك رجلاً آخر يطرق نفس الباب حديثاً فى البلدة المشهورة بإنتاج ذلك النوع من المحاصيل -أى بلدة قولة- والتى كانت مورداً أساسياً له ليس لولايات الدولة العثمانية فقط ولكن لمعظم الدول الأوروبية كذلك مثل فرنسا والبندقية .

معلم من فرنسا :

و الصدفة تلك المرة ستأتى من فرنسا فى شخص المسيو “ليون” الذى نزل البلدة حديثاً موكلاً من بعض تجار التبغ فى مارسيليا باحثاً عن شريك محلى ، وفى الغالب تم لقاؤه بـ”محمد على” عن طريق حاكم البلدة نفسه ، وإذا كانت تلك الشراكة لم تؤتى أكلها مادياً إلا أنها أثرت فى حياة “محمد على” تأثيراً ليس أدل عليه من إرساله فيما بعد عندما أصبح نائب السلطنة فى مصر للبحث عن شريكه القديم الذى انقطعت صلته به منذ ترك مقدونيا مولياً وجهه شطر مصر ضمن الحملة العثمانية الانجليزية المشتركة لمواجهة الغزو الفرنسى .

ولكن ماذا فعل المسيو “ليون” ليكون له كل هذا التأثير على “محمد على” ؟

للإجابة عن هذا السؤال فسوف نلقى نظرة للوراء نتأكد فيها من أن “محمد على” كان أمياً لا يعرف القراءة و الكتابة وكان كل ما تحصل عليه من تعليم هو فى الأصل تعليماً عسكرياُ ثم اكتسب بعض المهارات الحسابية التى كان يستخدمها فى دفع رواتب الجند أو جباية الضرائب فكان ما تحصل عليه قليل وإن كان ناجعاً فى ممارسة وظائفه ، ولكن “محمد على” جبل على الرغبة فى المزيد فلم يكن يقف عند نقطة معينة مكتفياً بما حصله وكانت تلك المَلَكَة هى دافعه الأكبر للتطور ، وصحيح أن المسيو”ليون” لم يعلم “محمد على” القراءة والكتابة إلا أنه كان نافذته على العالم فقد كان يترجم له كل الأخبار الواردة فى الصحف الفرنسية كما كان يناقش معه أموراً سياسية لم يعتد “محمد على” عليها مثل فلسفات الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم كذلك النظريات الاقتصادية الحديثة مثل الرأسمالية والاشتراكية تلك الأمور التى كانت رائجة فى ذلك الوقت فى الغرب إبان عصر نهضته كما ساعده بالطبع فى زيادة مهاراته الحسابية أثناء عملهما معاً .

ولكن ومع قيام الثورة الفرنسية عام “1789م” بدأت مرحلة جديدة فى تعاطى “محمد على” مع الأخبار التى يترجمها له المسيو “ليون” ذلك الحدث الذى قلب أوروبا والعالم رأساً على عقب ، وأعتقد من وجهة نظرى الشخصية أن هذا التعاطى كان مؤثراً وبدرجة كبيرة على شخصيته ليس هذا فقط ولكن بزوغ شخصية “نابليون بونابرت” وحرص “محمد على” الشديد على متابعة أخباره وأخبار غزواته فى أوروبا ما جعله يتخذ من تلك الشخصية مثالاً يحتذى به ومثلاً أعلى له يثير خيالاته وطموحه لأقصى حد ولم يكن له التعرف على كل تلك لأمور بدون مساعدة المسيو “ليون” .

وإن لم يكن هناك دلائل قوية إلا أن تأثير المسيو “ليون” قد امتد أيضاً لطريقة التربية التى فرضها “محمد على” على نفسه لأولاده فيما بعد فقد حرص أن يوفر لهم ما حرم منه هو نفسه من تعليم وعلى سبيل المثال فقد تعلم “إبراهيم بن محمد على” القراءة والكتابة وحفظ القرآن كما نال حظاً وافراً من تعلم الحساب واللغة العربية التى كان يجيدها تماماً عندما أبحر بعد ذلك بسنوات إلى مصر لاحقاً بأبيه هو وأخيه الأصغر”طوسون” حتى أنه منذ بداية إقامته فى مصر كان يعتبر نفسه مصرياً .

كذلك فإن المسيو “ليون” كان يتمتع بالفراسة التى أهلته لأن يعلن لـ”محمد على” بأن مستقبله ليس هنا وأنه ينتظره مستقبل باهر خارج تلك البلدة الصغيرة التى يتشاركان تجارتهما فيها ، وكان أول من شجعه على الخروج فى ركب الكتيبة الألبانية إلى مصر لمجابهة الحملة الفرنسية مع كونه فرنسياً إلا أنه أحب “محمد على” بإخلاص شديد جعله يتناسى جنسيته الأم متمنياً له النجاح فى مهمته .

وبهذا كان لقاء “محمد على” بالمسيو “ليون” صدفة ، نقطة تحول فى حياة الأول من حيث المعرفة وما ناله من تشجيع الثانى على الطموح فيما هو أكثر مما لديه والخروج على تقاليد العصر واستشراف عهد جديد من العلم والمعرفة بدأه مع أولاده ، ومن هنا ندرك من أين أتى شغفه فيما بعد بتقصى كل الأخبار التى ترد فى الصحف الأجنبية حتى أنه كان يعين موظفين مختصين فى ترجمة تلك الأخبار وعرضها عليه يومياً .

وهكذا وبدون أن نتساءل ماذا لو ، فقد دلتنا كل تلك التأثيرات التى أحدثها هذا اللقاء بين الرجلين على ما كان سيحدث لو لم يتقابلا .

وهكذا اكتملت حلقة جديدة فى سلسلة الحوادث التى أهلت “محمد على” لما هو قادم وأوصلته إلى السفينة التى سيبحر بها إلى مصر خاطياً بذلك خطوة عظيمة للمستقبل بما ينتظره فيه من مصادفات .

الكاتب : إيهاب فياض كاتب
أعشق القراءة ، والغوص فى بطون كتب التاريخ ، وأحب مشاركة معارفى وآرائى مع الآخرين .

إنضم إلينا وشارك!

إنضم إلينا الان
انضم إلى مجتمعنا. قم بتوسيع معرفتك وشارك أفكارك ومقالاتك!

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن