كيف ساهمت الصدفة فى صنع التاريخ – الحلقة الأولى ج2

فارس مغامر على أرض غريبة أو رحلة بلا عودة :

و هكذا ومع نهاية عام “1800م” شد “محمد على” رحاله إلى مصر كضابط ضمن الكتيبة الألبانية الممثلة لجزء مهم من القوة البرية للسلطنة العثمانية والمنوط بها تحرير أرض مصر من الغزو الفرنسى والتى كانت تنافس كتائب الانكشارية الشهيرة فى القوة والولاء للسلطان إلا أنها كانت تمتاز عنها بفضائل عدة مثل الانخراط فى المجتمع المحلى مما حد من طموحاتها الاستقلالية وعدم افتعال المشكلات للدولة مثلما تفعل الانكشارية مما حدا بالسلطان العثمانى “محمود الثانى” بالتخلص منها وإبادتها عن آخرها والاعتماد على الألبان الذين كانوا تحت السيطرة حتى الآن ، ولكن ما سيحدث لاحقاً سيثبت أنه أخطأ فى قراءة الحقيقة أو أن الصدفة هى التى فرضت نفسها بقوة على أرض الواقع مغيرة منه وموجهة مسار الأحداث بل وموازين القوى فى الشرق كله .

ولكى نفهم ما سيحدث فى مصر لابد أن نعرف أولاً موقع “محمد على” من تلك الحملة عند بدايتها فقد عينه “إسماعيل الشوربجى” نائباً للكتيبة الألبانية المؤلفة من ثلاثمائة رجل تحت رئاسة ابنه هو نفسه “على” والذى بدوره كان مرءوساً من قبل “محمد باشا خسرو” قائد الحملة المعين من قبل السلطان العثمانى وباشوات آخرين أدنى مرتبة أى أن “محمد على” لم يكن يتمتع أبداً بأى سلطة إدارية عليا عند خروج تلك الحملة من مرفأ قولة الصغير، كما أنه أعلن بنفسه فيما بعد فى أكثر من مناسبة أنه كان كارهاً للخروج فى تلك الحملة تاركاً وراءه زوجته وأبناءه الخمسة دونما رعاية مباشرة منه ولا يعلم متى سيعود لهم أو إن كان سيراهم مجدداً أم لا، وعلى هذا فقد كان الوضع كارثياً بالنسبة لهذا الشاب الثلاثينىوهو يراقب أمواج البحر الهادرة من وراء حاجز السفينة المتجهة به إلى أرض غريبة لا يعرف عنها شيئاً ليحارب رجلاً لا يعرف عنه إلا ما كان يكتب فى الصحف الفرنسية التى كان يترجمها له المسيو “ليون”، هذا الرجل الذى أشعل أوروبا كلها وأغرم “محمد على” بسيرته بدرجة كبيرة وكان دائماً ما يستلهم منها طوال مدة حكمه وهو “نابليون بونابرت” الذى وياللصدفة العجيبة قد ولد فى نفس عام مولد “محمد على” نفسه عام “1769م” .

وعلى هذا الوضع سوف يصل “محمد على” ضمن الستة آلاف جندى عثمانى هم قوام الجيش الموجه لإنهاء الاحتلال الفرنسى على مصرأى ما يقارب ربع قوام الجيش الانجليزى تقريباً وكانت الحملة بالكامل محملة على خمسة وتسعين مركباً حربياً .

وكان “محمد على” يأمل أن يشاهد بعينى رأسه ذلك الجنرال الشاب الذى فتنته الحكايات التى كان يحكيها عنه المسي “ليون” ولكن وياللأسف سيعلم عند وصوله إلى مشارف ميناء الأسكندرية أنه رحل عائداً لفرنسا تاركاً قيادة الحملة لأحد جنرالاته، كانت تلك بالتأكيد خيبة أمل له ولكن سيلهيه عنها ما سيعانونه فى البحر طيلة فترة نهاية الشتاء والذى منعهم دخول الميناء بسبب سوء الأحوال الجوية .

ولكن ومع حلول الربيع وبالتحديد فى الثامن عشر من مارس عام “1801م” سيشاهد “محمد على” جزء من الجيش الانجليزى ينزل للبر ويسيطر بسهولة على قلعة أبى قير ممهداً بذلك الطريق للإنزال التالى يوم الخامس والعشرين من نفس الشهر وهو إنزال القوات العثمانية، ومع انبهار “محمد على” بما رآه عندما خطى أولى خطواته على رمال شاطئ الإسكندرية من نخيل وحصون وقباب ومآذن الشرق لم يفته أبداً ملاحظة وجه رئيسه الشاحب ونظرات الهلع فى عينيه .

خطوة على الطريق :

وهنا تدق الصدفة من جديد باب “محمد على”، إذ يقرر “على” قائد الكتيبة الألبانية التنازل عن منصبه لنائبه والعودة إلى الديار بداعى المرض ليجد “محمد على” نفسه بين عشية وضحاها وقد ترقى فجأة لرتبة “بنباشى” أى قائد لألف رجل.

يالهذه الصدفة العجيبة التى ستحول “محمد على” من جندى مغمور إلى قائد كبير قبل حتى أن يبدأ القتال، وما عليه الآن إلا أن يقاتل ليبرهن على أحقيته فى هذه الترقية المفاجئة .

تلك الهدية القدرية المبكرة لـ”محمد على” بالتأكيد وفرت عليه خطوات كثيرة فى سبيل نيل ذلك القدر من الشرف ولكنها وضعت على كاهله أيضاً عبئاً كان يفوق خبراته وقوته الحقيقية، ولكنها لم تفاجئه بقدر كبير فعلاوة على أنه استشرفها فى وجه قائده السابق فهو أيضاً يكاد يكون قد اعتاد تلك المصادفات كما اعتاد معها كيفية إتقان الاستفادة من الفرص التى تولدها مما سيجعله يلتفت للماضى بنظرة سريعة مستعيداً ذكريات طفولته وما سمعه من والدته عن رؤياها أثناء حملها به وما تنبأت به العرافات الغجريات فى مسقط رأسه من أن هذا الفتى سيكون له شأناً عظيماً فى المستقبل .

دخل “محمد على” القتال بإيمان لا يتزعزع بأن الأيام القادمة تحمل له المزيد من المجد والفخار وبالطبع وجود الجيش الانجليزى إلى جوار قواته مع ضعف القوات الفرنسية والمماليك سواء من ناحية عدد الرجال والعدة والعتاد أو الفقر الفكرى وغياب الهدف لدى القوتين سارع بالطبع من وضع النصر فى خانة الحلف الانجليزى العثمانى، لتجد القوات الفرنسية نفسها مجبرة على الاستسلام وفقاً للشروط المفروضة عليهامنهية بذلك أى أمل فى نجاح تلك المغامرة الحربية للفرنسيين .

وفى يوليو من عام “1801م” سوف يخفق العلم العثمانى فوق أسوار القاهرة من جديد، وبالتأكيد فقد برهن “محمد على” على كفاءته القيادية والعسكرية فى تلك الحملة القصيرة وعرف كيف يظهر مواهبه بدليل أن قائد الحملة سوف يمنحه لقب “سيرشيسمى” أو ما يعنى قائد ألف ممتاز .

وهكذا سيدخل “محمد على” القاهرة مزهواً برتبته الجديدة، ففى أقل من عام على خروجه من بلدته الصغيرة فى مقدونيا جندياً مغموراً يخوض أولى معاركه الحقيقية ها هو يدخل العاصمة المصرية جنباً إلى جنب مع القبطان “حسين باشا” و “خسرو باشا” مندوب السلطان وباقى قادة الحملة مزهوين بنصر سريع خادع، فقد كانت البلاد فى فوضى عارمة، وفى أثناء موكب النصر هذا لم تكن قد آلت القيادة الفعلية فى البلد لأى من القوى المتحاربة بعد .

لمحة سريعة عن الواقع على الأرض :

ونحن هنا لسنا بصدد سرد كل ما جرى من أحداث فى تلك الفترة لأن المقام لا يتسع لذلك كما أن هذا ليس موضوع هذا البحث، ولكن ما يهمنا بعض المصادفات الهامة التى حدثت فى تلك الأثناء وقبل استتباب الأمر لـ “محمد على” .

ولكى نصل إلى تلك المصادفات لا بد أن نعطى لمحة عامة عن الوضع الحقيقى على الأرض فى تلك الفترة وطبيعة الصراعات القائمة حتى نعى تماماً تأثيرها على الأحداث .

بعد طرد الفرنسيين كانت هناك ثلاث قوى تتصارع فى تلك الفوضى على الغنيمة، قوتان تقليديتان هما الأتراك العثمانيين والمماليك، والقوة الجديدة هم الانجليز،وبما أن العثمانيين قد دخلوا القاهرة ورفعوا أعلامهم على أسوارها فقد كانت السيادة الإسمية فيها لـ “خسرو باشا” والذى ولَّى “خورشيد باشا” على الإسكندرية، كما أسند قيادة القوات الألبانية لـ “طاهر باشا” عسى أن يمنحه السيطرة المفقودة عليها، أى أنه لم يكن يسيطر على شئ فى الواقع .

و القوة الثانية فهم المماليك -أو ما بقى منهم- فلم يدينوا بالولاء إلا لباياتهم، وكان أمهرهم “عثمان بك البرديسى” و “محمد بك الألفى” تلك الأسماء التى سنعود لها بعد قليل .

أما القوة الثالثة فهم الإنجليز الذين توزعت قواتهم على ثلاثة فرق، الأولى على مشارف الإسكندرية، والثانية احتلت رشيد وضواحيها، والثالثة بالجيزة وجزيرة الروضة قبالة القاهرة .

وهكذا رسمت رقعة الشطرنج وبدأت لعبة غايتها الاستيلاء على الفريسة التى انْتُزِعَت من الفرنسيين،كان الانجليز فى البداية يعتبرون أنفسهم الوسيط المحايد بين قوتين متصارعتين -الأتراك والمماليك- إلا أن هذا الدور لن يستمر طويلاً وسوف يحتضنون المماليك كقوة يراهنون عليها فى المستقبل حتى أنهم عند رحيلهم عام “1803م” سيحملون معهم “محمد بك الألفى” وثلة من مماليكه لإعداده لمعركة الاستيلاء على السلطة فى مصر .

وبدأت اللعبــة :

وهكذا وبعد خروج الانجليز من مصر مباشرة، إندلعت الحرب بين العثمانيين والمماليك والذين أضعفتهم الحملة الفرنسية جداً لدرجة أنهم كانوا يجندون البدو لسد العجز فى الرجال، فى تلك الأثناء كان “محمد على” يرسم خريطة الصراع فى ذهنه ويحصى الأقوياء والضعفاء ويتعرف عن قرب على تقاليد وعادات البلد، وفى تلك الأثناء سيتولى “عثمان البرديسى” قيادة المماليك ويتمكن من السيطرة على مصر العليا مانعاً الإمدادات عن العاصمة وواضعاً “خسرو باشا” فى مأزق حقيقى، خاصة مع قيام الألبان بالثورة ضد “خسرو باشا” مطالبين برواتبهم المتأخرة بقيادة “طاهر باشا”، ويرد “خسرو باشا” على حصارهم له بالمدفعية، ولكن “طاهر باشا” سينجح فى الدخول بقواته إلى القلعة والسيطرة عليها والقبض على “خسرو” .

كل هذا و “محمد على” متحفظ حتى تلك اللحظة عن الميل لأحد الأطراف المتصارعة، ولكن بعد القبض على “خسرو” سيقرر التدخل إلى جانب المتمردين ما دام ذلك سيحطم سلطة “خسرو باشا” والذى يكرهه، ولكن لن يلبس “طاهر باشا” أن يقتل على يد الإنكشارية الأتراك مفسحاً المجال لرجلين اثنين يجب أن يخلفه أحدهما “حسن باشا” و ” محمد على” ولكن الأول كان أضعف من أن يتحمل عبء تلك المسئولية .

ومع سيطرة “محمد على” على قوة الألبان بالكامل، إزداد طموحه أضعافاً وفكر فى أن الأمر أصبح ممكناً لكنه كان يرى أنه يحتاج لإيجاد حليف قوى وقوة عسكرية تسنده وتدعمه والتى سيجدها فى أعداء الأمس المماليك، وسريعاً سيدعو “عثمان البرديسى” لدخول القاهرة بمماليكه وسيتم العفو عنهم واعادتهم لمناصبهم ورواتبهم مقابل عقد ذلك الحلف وإعادة توحيد شطرى القطر المصرى ثانية .

وبدون سرد المزيد من التفاصيل سيصبح حلف “محمد على” و “البرديسى” هو القوة الأكبر فى تلك الأثناء على الأرض وسيستمر هذا الحلف منفرداً فى القوة حتى شهر فبراير من عام “1804م” حين يقرر الانجليز الدفع ببيدقهم “محمد بك الألفى” فى رقعة الشطرنج المصرية .

إذاً يصل “الألفى” إلى الإسكندرية ويتصل بأتباعه فى مصر للحاق به والإعداد لدخول العاصمة المصرية إلا أن “محمد على” على رأس مشاة الألبان و “عثمان البرديسى” على رأس قوات المماليك المدعومين من البدو لن يمهلوه الوقت حيث سينصبون له ولقواته فخاً وسيجبروهم على التفرق وسينجو “محمد بك الألفى” من الأسر فى آخر لحظة ويهرب إلى الصعيد .

وهكذا سيكون هذا النصر آخر ما يحتاجه “محمد على” من “البرديسى”، لذلك سيبدأ فى البحث عن شريك جديد للفترة المقبلة وسيتمثل فى الشعب الذى سيضع التاج على رأسه بطريقة دائمة وأكيدة .

ولكن مازال هناك عائقان هامان يجب إزالتهما من الطريق ليصل لهذا الحد ألا وهما التخلص النهائى من “محمد بك الألفى” وكذلك إزالة “عثمان البرديسى” من المشهد، وبما أن “الألفى” بعيداً فى الصعيد فسيبدأ بـ”البرديسى”، فما أن دخل الرجلان العاصمة حتى دفع “محمد على” بـ”البرديسى” إلى الواجهة لعلمه بما تعانى منه القاهرة من مشاكل يصعب حلها، وسيضطر “البرديسى” لفرض الضرائب الباهظة على التجار وخاصة الأجانب منهم مما سيجلب له العداء مع الشعب وقناصل الدول الأجنبية وكذلك الجنود الذين سيعجز عن حل مشكلة رواتبهم المتأخرة فيتجهون إلى عمليات السلب والنهب حتى فاضت كأس الغضب وارتفعت الأصوات على المآذن متسائلة (ماذا ستفعل بنا أكثر يا برديسى لتزيدنا شقاءاً على شقاء ؟) وتوجهت الجموع للأزهر مستعدة للانقضاض، إلا أن “محمد على” بحسن تدبيره سوف يوزع جنوده الألبان على العاصمة آمراً إيَّاهُم بمنع الجنود المماليك من إيذاء أفراد الشعب أو المساس بمصالحهم .

وسوف يدافع عن علماء ومشايخ المصريين ووجهائهم عندما يستدعيهم “البرديسى” مُحَمّلاً إيَّاهم المسئولية عما يحدث قائلاً: أن الحكومة هى المسئولة عن سداد رواتب الجند وليس الشعب، ليقدم نفسه فى صورة المنقذ بلا طموح الذى لا يخشى معارضة المماليك من أجل الشعب .

وستتوالى الأحداث حتى تصل بـ “عثمان البرديسى” وخلصائه إلى الهروب واللجوء للصحراء ولكن “محمد على” لن يغامر بالخروج للواجهة الآن فى ظل استمرار “البرديسى” و “الألفى” فى الصورة ولكن سيوعذ إلى الباب العالى تعيين “خورشيد باشا” حاكم الإسكندرية والياً خلفاً لـ “خسرو باشا” الذى تم ترحيله إلى اسطانبول، وبالفعل سيلقى هذا الاقتراح رضاء الباب العالى وسيصل فرمان التعيين فى مارس عام “1805م” للقاهرة بعد عشرين يوماً من وصول “خورشيد باشا” إليها ليواجه المشاكل المتراكمة من نقص الأموال وتراكم رواتب الجند، كذلك مناوشات الحلف الجديد بين “الألفى” و “البرديسى” على حدود الجيزة والقليوبية ومستشعراً كذلك من “محمد على” الذى نجح فى تلك الأثناء فى استعادة مدينة المنيا من المماليك فاتحاً بذلك مركز تموينهم ومخزن ذخيرتهم فى الصعيد كذلك مؤمناً تواصل المؤنة للعاصمة عبر النيل .

ولكن “محمد على” سيعود سريعاً إلى القاهرة لمواجهة طموح “خورشيد باشا” فى الانفراد بالحكم بعد أن عرض عليه الأخير عفواً من الباب العالى عن حلفه مع المماليك مقابل رحيله هو ورجاله عن مصر فوراً، الأمر الذى لم يرق للجنرال الطموح خاصة بعد وصول أربعة آلاف جندى كردى من الدلهيين كان قد أرسل فى طلبهم “خورشيد باشا” لإحلال التوازن فى القوى .

أثار وصول “محمد على” للعاصمة القلق والاضطراب فى نفس الباشا ولكن كانت حجته جاهزة فالجنود يطالبون برواتبهم المتأخرة منذ ثمانية أشهر، وما أن يستقر ببيته فى الأزبكية بقلب المحروسة سيتوجه أعيان ومشايخ البلد لزيارته بالرغم من تحذيرات الباشا لهم بعدم فعل ذلك ويشكون له مما يفعله بهم الباشا وجنوده الأكراد الذين نجحوا فى استعداء الشعب بسبب سوء نظامهم وأذيتهم للناس .

ولم تفلح كل تدابير الباب العالى فى إبعاد “محمد على” عن مصر حتى الفرمان الخاص بمنحة باشوية جدة فسيستخدمه كرأس حربة ضد الباشا، حيث سيعلن لجنوده الألبان أنه لا يملك أى سلطة فى مصر لمنحهم رواتبهم المتأخرة وأن عليهم أن يطابوا بها الباشا .

وستكون تلك هى القشة التى قصمت ظهر البعير فسوف تتصاعد الأحداث تدريجياً حتى نصل للحظة التتويج، ففى منتصف شهر مايو من عام “1805م” سيذهب وفد من مشايخ البلد لبيت “محمد على” ليعلنوا أنه قد فاض الكيل وعليهم أن يخلعوا “خورشيد باشا” من الحكم ليحل هو محله، وبالطبع كان التظاهر بالرفض من جانبه وتمنعه عن قبول هذا المنصب يزيدهم إصراراً ويقوم السيد “عمر مكرم” نقيب الأشراف والشيخ “الشرقاوى” شيخ الأزهر بإلباسه عباءة مبطنة بالفرو ويعلنوه الوالى الجديد، وفى اليوم التالى يكتبون للأستانة مطالبين بفرمان سلطانى يمنح “محمد على” باشوية مصر خلفاً للمأفون “خورشيد” .

ويا لهذا الحث الاستثنائى الذى قلَّما تكرر منذ الغزو الفارسى لمصر أن يختار أبناء البلد قائدهم ويجبرون مستعمرهم على الرضوخ لهم فبعد أكثر من شهر سيصل فرمان تولية “محمد على” ورحيل “خورشيد” للأبد .

ولكن السلطة الحقيقية لم تكتمل بعد فى يد الباشا الجديد فما زال “البرديسى” و “الألفى” على رأس قواتهما، ولكن سيرة “محمد على” تثبت أنه كلما تعرض لأزمة قد تودى به مصارع الهلاك إلَّا وتتدخل يد القدر، وهذه المرة لن تكون صدفة واحدة بل اثنتان ففى شهر أكتوبر من عام “1806” يسلم “البرديسى” الروح لبارئها نتيجة لمرضه بالحمى الصفراء، وبعد أسابيع قليلة وبالتحديد فى شهر يناير من عام “1807” يموت “الألفى” كما يقال مسموماً على يد إحدى زوجاته كان قد قتل والدها فى نوبة غضب .

لقد قال “محمد على” : “لن أنعم بالسلام مادام الألفى حياً، نحن نشبه راقصين على حبل مشدود مع اختلاف أن له عكازين فى رجليه”

كما يُقَال أن “الألفى” قد سُمِعَ يهمس قبل أن يموت مباشرة: “كل شئ قد انتهى، من الآن فصاعداً ستصير مصر لمحمد على، لا أحد سيملك القوة للوقوف فى وجهه” .

وهكذا استتب الأمر لـ “محمد على” أو على الأقل أصبح يقف على أرض صلبة ليبدأ منها نهضة أيقظت مصر من رقاد دام مئات السنين ويخرجها من ظلمات العصور الوسطى ليضعها فى مصاف الدول الحديثة بكل ما تحمل الكلمة من معان .

الخاتمــــــة:

لا أحد يستطيع أن ينكر مهما كان متحيزاً مدى الجهد الذى بذله “محمد على” والتضحيات التى قدمها ليصل إلى ما وصل إليه حتى هو نفسه قد أشار لذلك فى أحد أقواله حيث يقول: “لم أكرس حياتى كلها لمصر، ولم أقم بأشياء ربما بدت مستحيلة للآخرين لكى أترك متعة لباشا”، ولكن لا نستطيع أيضاً أن نتجاهل كل تلك المصادفات التى صاحبت مسيرته والتى ساهمت وبقدر لابأس به أبداً فى وصوله للقمة، وربما صاحبه غالباً حسن الطالع لأنه كان رجل يتمتع برؤية استثنائية كان يتخطى فيها الكائن ليرى ما يجب أن يكون ليضع هذا الفارس المغامر والمغمور القادم من تلك البلدة الصغير فى الشمال اليونانى ليصنع أسطورته الخاصة على الأرض الغريبة .

المصادر:

الكتاب                                  المؤلف                 المترجم               دار وسنة النشر

عجائب الآثار فى التراجم والأخبار                          عبد الرحمن الجبرتى                                              دار الكتب والوثائق  1998م

تاريخ مصر من عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل    جورج يانج                     على أحمد شكرى                 مكتبة مدبولى        1996م

تاريخ مصر من الفتح العثمانى إلى قبيل الوقت الحاضر   عمر الاسكندرى/سليم حسن                                      مكتبة مدبولى        1996م

تاريخ مصر من محمد على إلى العصر الحديث             محمد صبرى                                                       مكتبة مدبولى        1996م

الكافى فى تاريخ مصر القديم والحديث                       ميخائيل شاروبيم بك                                               مكتبة مدبولى        2004م

محمد على باشا عودة الذاكرة المصرية                      منير غبور/أحمد عثمان                                           مكتبة مدبولى        2011م

الفرعون الأخير                                                جيلبرت سينويه                                                     منشورات الجمل    2012م

الكاتب : إيهاب فياض كاتب
أعشق القراءة ، والغوص فى بطون كتب التاريخ ، وأحب مشاركة معارفى وآرائى مع الآخرين .

إنضم إلينا وشارك!

إنضم إلينا الان
انضم إلى مجتمعنا. قم بتوسيع معرفتك وشارك أفكارك ومقالاتك!

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن